Sep 20, 2025
من بين أزقة الحي الدبلوماسي بالرياض، يطلّ مطعم فرنسي يأخذك من لحظة دخولك إلى عالم آخر، عالم تنصهر فيه التقاليد العريقة مع الأناقة المعاصرة، اسمه Le Maschou، وهو ليس وليد الأمس، بل فرع لأحد أعرق المطاعم الفرنسية الذي تأسس في مدينة كان عام 1963. منذ ذلك الحين، صار اسم Le Maschou مرادفًا للفخامة والرومانسية، واليوم يكتب في الرياض فصلًا جديدًا من تاريخه، فصلًا لا يخلو من الدفء والدهشة.
زرت المكان في إحدى ليالي الأسبوع، متأخرًا بعض الشيء، عادةً ما تكون المطاعم في هذا الوقت أقل صخبًا، لكن هنا كان الأمر مختلفًا، الجو هادئ بالفعل، لكن المكان نابض بالحياة بطريقة ساحرة، الإضاءة خافتة تُلقي بظلالها على الجدران، موسيقى هادئة تتسلل كأنها نغمات فرنسية قديمة، والابتسامات التي تستقبلك منذ الخطوة الأولى تجعلك تشعر أنك ضيف في بيت صديق عزيز، لا مجرد زبون عابر. الخدمة كانت دافئة، صادقة، صادقة لدرجة جعلتني أستسلم للشعور بأن هذه الليلة ستكون مختلفة.
بدأت الرحلة مع البوراتا، طبق يبدو بسيطًا للوهلة الأولى لكنه يكشف عن عوالم من النكهة، قطعة كريمية لينة، تنساب على اللسان بسلاسة مخملية، لكنها تحمل في طياتها طعماً لم أذقه من قبل،كان الأمر أشبه بمفاجأة صغيرة تهمس لك بأن المطبخ هنا يعرف تمامًا كيف يذهلك من البداية.
ثم جاءت البطاطس بالترافل؛ مقرمشة من الخارج، ناعمة من الداخل، محمّلة برائحة الترافل الفاخرة التي لا تخطئها الحواس، في كل قضمة تكتشف توازنًا نادرًا بين البساطة والترف، وكأنك أمام درس قصير في فلسفة المطبخ الفرنسي: أن الأناقة ليست في التعقيد، بل في الصنعة المتقنة.
إلى جانب ذلك، كان هناك طبق جانبي يستحق الوقوف عنده: القشدة الحامضة مع الأعشاب الطازجة،قد يبدو للوهلة الأولى مجرد صلصة، لكنه في الحقيقة كان أشبه بلمسة موسيقية خفيفة تُكمل اللحن العام، منعش، عطِر، ومتوازن بطريقة تجعل كل لقمة تصير أكثر حيوية.
لكن اللحظة الفاصلة في التجربة جاءت مع طبق لحم البقر الكارباشيو، أعترف أن هذا الطبق لم يكن يومًا من اختياراتي المفضلة، غالبًا ما أعتبره جريئًا أكثر مما أفضّل، لكن هنا، في Le Maschou، بدا كأنه يُعيد تعريف نفسه، شرائح رقيقة تكاد تُذوب على اللسان، صلصة متفردة تضيف عمقًا غير متوقع، وتوازن مثالي يجعل كل قضمة مزيجًا من الدهشة والانسجام، كان الطبق أشبه بلوحة تشكيلية صغيرة، حيث كل عنصر وضع في مكانه بعناية.
ولأن التجربة لا تكتمل من دون مشروب يوازيها في التميّز، اخترت مشروب Cherry Bluster، طعمه كان منعشًا، بخفة حلاوة تجعل الوجبة أكثر انسجامًا، رشفته الأولى كانت مثل فاصلة موسيقية أنيقة تختم جملة طويلة من النكهات، وتتركك مبتسمًا في هدوء.
لكن سر Le Maschou الحقيقي لا يكمن فقط في أطباقه، بل في أجوائه التي تتغيّر مع الفصول، إن أردت نصيحتي الشخصية، فاذهب إليه في الشتاء، هناك، يشتعل الموقد في زاوية المطعم، وتتحول الأجواء إلى لوحة شاعرية: دفء النيران يلتقي مع برودة الطقس، والأنغام الموسيقية الحيّة في بعض الأمسيات تجعل كل لحظة محمّلة برومانسية لا تُشترى، المكان يتحول إلى مسرح صغير مثالي للاحتفالات الخاصة، للذكرى السنوية، أو لعشاء رومانسي يبقى محفورًا في الذاكرة.
أما عن الأسعار، فهي تعكس طبيعة المكان الفاخرة، لكنها تبقى في نطاق التجربة التي تستحق، فمثلًا، هناك قائمة الغداء المكونة من أربعة أطباق (من الأحد إلى الأربعاء) بسعر يقارب 290 ريالًا للشخص، تجربة تمنحك فرصة لتذوق ما يقدمه المطعم دون أن تثقل الكاهل، وتفتح لك الباب لتقدير قيمة التفاصيل التي يقدمها.
مطعم Le Maschou ليس مجرد مطعم فرنسي في الرياض، بل هو جسر أنيق بين مدينة كان والحي الدبلوماسي، يجمع بين عراقة الماضي وأناقة الحاضر، ويقدّم للذوّاقة تجربة فريدة حيث كل تفصيلة، من البسمة التي تستقبلك إلى آخر رشفة من مشروبك، مصممة لتلامس قلبك، إنه المكان الذي يذكرك أن الطعام ليس مجرد وقود للجسد، بل احتفال بالروح، وأن المائدة قد تكون أجمل مسرح تُعرض عليه حكاياتنا الصغيرة.
في النهاية، خرجت من Le Maschou وأنا أشعر أنني لم أتناول وجبة فاخرة فقط، بل عشت قصة متكاملة، قصة تبدأ من موقد مضاء في شتاء الرياض، تمر عبر نكهات غنية تُعيد تعريف أطباق كلاسيكية، وتنتهي بابتسامة صادقة من فريق يعرف أن الضيافة الحقيقية لا تُقاس بالرفاهية وحدها، بل بالقدرة على جعل الضيف يشعر أنه في بيته، وهذا بالضبط ما يفعله Le Maschou.
حقوق النشر 2025, جميع الحقوق محفوظة ©